المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : منعم الازرق قراءة في تمزقات


سالم
07-07-11, 08:39 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته



1
عزفت الريح ترنيمة اللامنتهى
فتداعت اوتار الكمنجات
2
هل تعي أذني
انين القدمين
الحافيتين
في مفترق الطرق؟؟
3
من أين لهذه الكائنات
أن تمزف شرياني
تنحت لها أخدودا
في الساق
عند التلاقي؟؟
4
ها الكف معلقة في المدى
بين الطين والماء
منها تقتات الف من الزواحف
وترسم بدمي
شكل الانزياحات الاولى
5
عند المفرق
أنشطر
تنغرس في القفا
اظافر اليدين
ها أنا نصفين
نصف لي
نصف علي



يشي التمزق بالجرح والألم والانشطار، وحينما نقرأ عنوان هذا النص نتخلى أولا عن كل فرح خادع.
بصريا، يتناسب تقسيم النص إلى خمسة مقاطع مرقمة مع دلالة "التمزقات"، فكأن كل مقطع قطعة من الذات/موضوع الانشطار. لكن من أين تتأتى هاته التمزقات؟ ما طبيعتها؟ وما ثمن "التعرض" لها؟
في المقطع الأول سطران، أولهما للريح التي تعزف قصة الخلق الأزلية (ترنيمة اللامنتهي)، وثانيهما لأوتار الكمان التي تخرسها الريح (ترنيمة المنتهي). نحن هنا في حضرة إصغاء للصوت وللصمت، وبينهما يتهيأ طقس "القبض على المتلقي"، فتداعي أوتار الكمان ما هو سوى بديل موضوعي لتداعي أوتار الذات في حضرة "الوجود العابر في الكون"، ولا يستثنى من هذا القيد إنسان!
في المقطع الثاني، تتضاعف الأسطر إلى أربعة، وهي على تعددها عبارة عن جملة إنشائية واحدة وردت بصيغة الاستفهام، وتبقى للأذن-على غرار المقطع السابق- مركزية الحضور الحسي ظاهريا، ذلك أن التأمل في التركيب الشعري يضعنا أمام "أصوات مرئية" بل "واعية"، إن العين لا تمر دون التمعن في "القدمين الحافيتين" كما أن الأذن تعمى عن سماع أنين هاتين القدمين "في مفترق الطرق".
ههنا تتمزق الحواس بتراسلها وتداخلها مع الوعي ("هل تعي أذني"؟)، أما الذات فإنها تواصل خطاها بقدمين حافيتين، تحدق بهما الأخطار، إذ تتأهب لمفترق الطرق الأول معلنة بدء حالة "التمزقات" التالية لحالتي "الإصغاء" و"تراسل الحواس".
المقطع الثالث، يمتد على خمسة أسطر تشكل جملة استفهامية مركبة، تلتفت فيها الذات إلى "هذه الكائنات" التي تشير إليها حضوريا رغم غياب أية إحالة سابقة على طبيعة "هذه الكائنات"، حيث لا نتعرف عليها إلا بما ورد بعدها من قول: " من أين لهذه الكائنات أن تمزق شرياني تنحت لها أخدودا في الساق عند التلاقي؟؟". كأننا نعثر هنا عن علة "التمزق" ومصدره (تلاقي الذات والكائنات)، ولكن صيغة الاستفهام تُبقي المتلقي عالقا بين خيارين: التعجب من حصول فعل التمزق، أو استبعاده نهائيا بالنظر إلى "قوة الشريان". ولعله لن يحسم أمر الخيار (إذا كان ضروريا أصلا) إلا بقراءة المقطع الموالي.
رابع المقاطع، يشتمل على خمسة أسطر، جاءت بصيغة الإخبار عن "الكف" التي تغدو موضوعا للتمزق :
معلقة في المدى (بما يفيد انفصالها وتعاليها عن شرط التمزق)
بين الطين والماء (بما يفيد تمزقها بين عنصرين لا بد من تلاقيهما لحدوث الخلق)
تقتات منها الزواحف (بما يفيد الموت والحياة)
لماذا كل هذا الألم والتمزق؟ إنه ثمن "الكتابة بالدم"/ خلق "الانزياحات الأولى"، مع ملاحظة أن "الانزياح" هنا يعني الاختيار الشعري الفني، كما يدل قبل ذلك على حالة أخرى من حالات "التمزق"" بين المعيار والخيار.
في المقطع الخامس (الأخير)، تبلغ الأسطر مداها العددي (7)لكن مع وجود هيمنة للفراغ، حيث تضيق هاته الأسطر لتنحصر في كلمة واحدة (أنشطر) وإن امتدت لا تتجاوز ثلاث كلمات (تنغرس في القفا). هذا التوزيع يتناغم مع ما يقوله المقطع حين يردد أصداء المقاطع الأربعة السابقة:
"عند المفرق
أنشطر
تنغرس في القفا
اظافر اليدين
ها أنا نصفين
نصف لي
نصف علي"

ثمة بوح أو تصريح بانشطار الذات عند المفترق (أو المفرق؟)، وهذا يعيدنا إلى القدمين الحافيتين الواقفتين "عند مفترق الطرق"، لكن مواصلة القراءة تنقلنا من "فعل القدمين" إلى "فعل اليدين" اللتين تنغرس أظافرهما في القفا، فتنشطر الذات إلى نصفين: نصف لها ونصف عليها. اليدان والقدمان والنصفان بعنفها المثنى،الخانق والقاطع، تشكل في اعتقادي نقيضا للكف المفردة، المعلقة "بين الطين والماء". ولعلنا هنا أمام ما يشبه الاعتراف ب "جرح الكتابة العذب"، أي بما للكتابة من وظيفة بانية للذات بآيات الجمال واحتمالات الكمال، وبما تشترطه من مكابدات تهد الجسد وتعطبه وتخنق به آخر الأنفاس. هل تكون "الكف" هي القصيدة المعلقة التي تشير بها الذات إلى تمزقاتها في عالم الكائنات-الزواحف الأكثر فتكا بشريان العصر؟
تنتهي القصيدة، وتبقى قراءتها مفتوحة بقوة تمزقاتها وانشطاراتها.

الشاعر والناقد منعم الازرق