إن الإنسان إن لم يشتت ما وهبه الباري سبحانه من قوة الصبر، ولم يبعثرها في شعاب الأوهام والمخاوف ؛ فان تلك القوة يمكن أن تكون كافية للثبات حيال كل مصيبة وبلاء .
ولكن هيمنة الوهم وسيطرة الغفلة عليه والاغترار بالحياة الفانية كأنها دائمة؛ يؤدي إلى الفتّ من قوة صبره وتفريقها إلى آلام الماضي ومخاوف المستقبل ، فلا يكفيه ما أودعه الله من الصبر على تحمل البلاء النازل به والثبات دونه، فيبدأ ببث الشكوى حتى كأنه يشكو الله للناس، مبدياً من قلة الصبر ونفاده ما يشبه الجنون فضلاً عن أنه لا يحق له أن يجزع جزعه هذا أبدا .
ذلك لان كل يوم من أيام الماضي -إن كان قد مضى بالبلاء - فقد ذهب عسره ومشقته وترك راحته، وقد زال تعبه وألمه وترك لذته، وقد ذهب ضنكه وضيقه وثبت أجره، فلا يجوز إذن الشكوى منه، بل ينبغي الشكر لله تعالى عليه بشوق ولهفة. ولا يجوز كذلك الامتعاض من المصيبة والسخط عليها بل ينبغي ربط أواصر الحب بها، لأن عمر الإنسان الفاني الذي قد مضى يتحول عمراً سعيداً باقياً مديداً بما يعاني فيه من البلاء، فمن البلاهة والجنون أن يبدد الإنسان قسماً من صبره ويهدره بالأوهام والتفكر في البلايا التي مضت والآلام التي ولّت.
أما الأيام المقبلة، فحيث أنها لم تأت بعد ومجهولة مبهمة، فمن الحماقة التفكر فيها من الآن والجزع عمّا يمكن أن يصيب الإنسان فيها من مرض وبلاء ؛ فكما أنه حماقة أن يأكل الإنسان اليوم كثيراً من الخبز ويشرب كثيراً من الماء لما يمكن أن يصيبه من الجوع والعطش في الغد أو بعد غد، كذلك التألم والتضجر من الآن لما يمكن أن يبتلى به في المستقبل من أمراض ومصائب هي ا لآن في حكم العدم، وإظهار الجزع نحوها دون أن يكون هناك مبرر واضطرار، هو بلاهة وحماقة إلى حد تسلب العطف على صاحبها والإشفاق عليه. فوق أنه قد ظلم نفسه بنفسه.
الإمام بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله