[frame="7 80"]صباح أول يوم بعد عطلة نهاية الأسبوع . داخل قاعة الدرس بمدرستي
قلت في نفسي :
ليتها تجاهلت تواجدي لأضع رأسي فوق الطاولة ، أشعر بهدير عميق يدوي بين صدغي ، ينبعث من جذوردماغي ويحاول الانفلات عبر ناصيتي .
تصيح المدرسة مرة أخرى .انتبهي سارة إنك منشغلة عن الدروس منذ مدة .
إني محتارة بين اختيارين بعد اعتذاري لها :
إما أن أتنحى خلف الصفوف وأتفرغ لتتبع الوخزات المؤلمة المنبعثة من جمجمتي ، أو أغادر قاعة الدرس .
إني - بصدق - غير قادرة على المتابعة والتركيز .
صوتها وهي تقرر وتستنبط كأنه نعيق يلهب مسمعي ويغذي محنتي
ــ وإن رفضت ... ما العمل ؟
أعتقد أنها ستفسر طلبي محاولة للهروب والتخلص ..
سبق أن رفضت لزميلات معي نفس الطلب .
إنها صارمة قاسية .
لعل ظروف عيشها ، وفشلها في بناء أسرة، تحول دون تحليها بالشفقة والتسامح والحنو .
أو أنها مصرة بجدية وصدق على إنقاذ الأجيال المستهدفة ، من الضياع .
نفذ صبرها أمام إصراري على تجاهل ندائها ، فزمجرت ورددت كلمات لم تصلني إلا نبراتها الجافة .
اشرأبت أعناق زملائي وتوجسوا شرا .
بسرعة البرق استرجعت ، لما حرمت أحد تلاميذها من حضور حصصها لكونه - آنذاك - ادعى أنه نسي تحضير وإنجاز واجبات البيت .
فما عساها ستقرر اليوم في حقي ؟
لا يهمني ،إنني لست مدعية ولا متظاهرة ، ولا أعرف ما الذي ينتابني .
وخاصة هذه الأيام .
وقفت هنيهة بجوار مقعدي ،
ثم انحنت لتكلمني ، متحسسة حرارة صدغي .
سألتني ...
فأجابتها قشعريرة تسري بين أوصالي ،
مع اصطكاك أضراسي . نابت عني لما أفقدتني القدرة على النطق .
-خذي قسطا من الراحة بقاعة التمريض .
وقبل انصرافك كلميني لأطمئن على صحتك .
استغرب الجميع قرارها .
أسرعت أنا بالانصراف قبل أن تغير رأيها .
كلفت من يساعدني فولجنا قاعة صغيرة على بابها : مصحة المدرسة .
حاولت احتواء رأسي بدراعي لأخفف من حدة آلام تمزق هدوء القاعة وتعصف براحتي .
مكثت زهاء ساعة لا ألوي على شيئ،
استعرضت خلالها شريط أحداثي :
لم أنعم بالراحة ولا بالنوم منذ مدة .
أعيش حالات القلق والكآبة ووهن الأعصاب .
تنتابني أحيانا هستيريا الخوف من المجهول .
لا أتبين مصدرها ولا مدى خطورتها ، وإنما أتوجس الهلاك المحقق .
التقط سمعي طرقات غائرة على الباب ، ثم خطوات متلاحقة تتقدم نحوي ، إنها معلمتي .
وجدتني سابحة بين خراطيم تنساب عبر عيني وأنفي وفمي ، منكفئة على ركبتي ككومة رمل صبت من عل .
خاطبتني باسمي وحركتني برفق من كتفي .
أجبتها بإشارة من سبابتي .
حاولت مساعدتي للجلوس .
رقت لحالي .
نقلتني إلى مكتب إداري . وقالت :
خفيفة ... خفيفة
أجبتها بصوت خافت متهالك :
-أعاني من انهيار كامل ، وآلام حادة متفرقة ... مع الإحساس بحالة غريبة :
كأني ألقيت من رأس جبل شاهق ، ولا زلت أهوي وأتجه نحو قعر سحيق .
جلست بجانبي وتناولت رأسي وأسندته إلى صدرها .
شعرت بدفء منعش .
قالت :
-متى بدأ إحساسك بالألم ؟
-لا أستطيع التحديد ، كل الذي أتأكد منه أني أعاني بسببه من الأرق والاضطراب .
- منذ متى؟
- لا أذكر .
- هل تخشين شيئا محددا ؟
- أخشى أشياءعدة وعلى رأسها ..
.. تلعثمت ولم أكمل حديثي ....
فغيرت صيغة التساؤل .
- هل تفكرين قبل نومك في حالة أو حدث بعينه ؟
- قلت :
والدتي .. أخي ... أبي ... وأجهشت بالبكاء .
والدتك وأخوك خرجا لقضاء بعض المصالح ولم يعودا .
نتوقع وصول أخبار عنهما .
ــ فأجبت : لكن أمي تكلمني يوميا قبل وبعد منامي .
لا زلت أذكرأن عللها متفاقمة ولا تقوى على قضاء الليالي في العراء .
إنني إلى الآن أقتسم معها فراشها من الورق المقوى وغطاءها القصير المترهل . أتألم لألمها وأبكي لتضورها وأرقد باستمرار بجوارها .
صوتها دائما يدوي في مسمعي ، وكذا أنينها وتوسلاتها وأوامرها ورغباتها
هاهي تارة تناديني وأخرى تصيح في وجهي ، وثالثة تحتضنني وتربض على رأسي بحنان متدفق يملأ جوانحي.
أشاهدها كماأشاهد أخي ، وأكلمهما كلما أغمضت عيني . لا أستطيع تصور أنهما غادرا نحو المجهول .
والذي يؤرقني كثيرا هو أبي الذي اقتيد بحضورنا من باب البيت أسيرا نحو مكان غير معروف .
فبادرت المعلمة :
إنه واقعنا المرعب الذي علينا أن نعيشة رغما عنا .
وهي وقائع قمينة بإحداث ما تشعرين به ، لقد عايشت ونعايش جميعا أحداثا ومصائب يشيب لهولها الولدان .
إننا نعاني مثل ما تعانين . ولكننا نتجاهل الألم من أجل الاستمرار .
لفتني من جديد بذراعيها وأخذت تردد بصوت مخضب بزفرات الأسى مبلول بدموع الحسرة والحزن :
خفيفة ... خفيفة ... ستفرج قريبا .
سألتها إحدى العاملات بإدارة المؤسسة .فقالت :
إننا جميعا نعاني مما تعاني هاته . غير أنها ضعفت أمام الصراع الانفعالي الذي ولد لديها ضغوطا نفسية متراكمة . تغذيها ــ للأسف ــ وتزكيها باستمرار تصرفات جيرانها وبعض أبناء عمومتها ...
[/frame]